ربيع مصراتة الذي تأخر
مصراتة، أحاول لملمة أطراف الحكاية وأن أبدأ الرواية، لكنى لم أستطع أن اُخضع كل حرف لقواعد النحو والصرف والبلاغة.. وخفت أن يحكم على ذوو الخبرة بالركاكة الكتابية فلم أتمكن من التحول إلى سيبويه وأوشح كلامى بقواميس اللغة لأكتب عنكِ لأن معرفتى بها لاتتعدى حدود ماتعلمناه من مناهج القذافى.. ففى زمن الطغاة كل من حاول أن يتعلم أكثر،وسأل واستفسر نُعت بالرِّدة.
لقد عانينا من غربة الحروف وتضاءل فعل الزمن بداخلنا وصارت ليبيا كتاباً عجِز عن قراءته العالم، فكتابه الأخضر ونظريته المتقعره وأفكاره الوهمية كانت هى الكتاب الأوحد الذى أعادنا إلى عصور الوثنية، وعشنا كأيام الجاهلية.. لذا اعذرونى، واعذرينى يابلادى فلم نتعود التعبير بلغة الحرية.
مصراتة إن صمتت منا الشفاه، تكلمت فينا الجراح وحكت عن ليلٍ مظلم ٍ، وكيف صار دمكِ يستباح؟ كيف أحرقت تلك الفلول أرضك؟ واخترع ثوارك من الحق السلاح، وكيف كبّرت فيك المساجد أن (حي على الفلاح).
مصراتة ياقرة العين..جاءكِ الشقي البغي، يريد تدميرك، كانت دباباته تلتهم أرضك ومدافعه تلوث هواءك وصواريخه حلقت فى سماءك وكتائبه تجتاح كل شبر من ترابك..تلك الشراذم التى اختزلت الوطن فى طاغية ميّز نفسه ووضعها فى حالة من التفرد، (أنا المجد) قال.. وملء خياله بكل أوصاف التضخيم.. لكن صلاحيته انتهت، وصار أضحوكة العالم بنضال شعب مسالم.
أنا ليبية وأفتخر أنى مصراتية.. من مدينة دخلت التاريخ بكل شموخ وصارت محرقة الطاغية المتبجح.. مدينة، من ترابها خرج فتية صنعوا المعجزة وبقدرة مقاومة لم تغادرهم وضعوا العالم فى خانة الإنبهار، وصدر من مصراتة البيان، لاتخاذل، لا تهاون، لااستسلام.
قد يكون ربيع مصراتة تأخر، لكنه جاء..لينبت العز والفخرمن دماء الشهداء.
بدماء شبابك ازدهر ربيعك يا مصراته، والناس كبّروا، الله اكبر،جاء الربيع، جاء النور، ليرسم صوراً مكللة بالغار والزهور والعطور.صوراً تحمل أجمل اللوحات، كُتب عليها أسماء شهداءها ومن صنعوا مجد فخارها، لقد ضحوا وبالدماء ما بخلوا، فقد حاولت الشراذم ان تسبل رداء ظلامها وطغيانها على ضياء البطولات ولكن هيهات هيهات.
مصراتة أرواح شهداءك حلقت فى سماءك كالفراشات المليئة بالعشق لأرضك، وزغردت أم الشهيد، تقول: ابنى صنع لى العيد، وجاء من بين الظلام بالفجر الجديد، بعد أن كنا بلا حياة ولاإحساس بالوجود. لكن هذا الشهيد، ضحّى كما ضحى الجدود.
ثوارك مصراتة حموا الحمى وكانوا لنا العز والإباء، وكان لهم فى صلاة كل عجوز خشوع ودعاء.. وقفوا كالجبال الشامخات، يرفعون همماً ورايات، رايات صمود وتصدى، رايات زهو وتحدى.
مصراتة لها رجال تناثرت تحت أقدامهم تلك الكتائب واحترقت، وأضحت هشيماً واندثرت، رجالٌ، لم تسقط لهم راية، وكانت الحرية هى المطلب والغاية، أرادوا أن تصحوا بلادى ذات صباح لتتنفس هواءً لايتنفسه ذاك المختل ، وقالوا بصوت العزة والأمل : لقد انتهت رحلة موعدِك معنا ياقذافى، فكم مرة تستطيع أن تقتلنا؟.
أهلك يا مصراتة صبروا وكبّروا وصاموا وصلوا وقالوا: نحن لها، نداوى جراحها والنساء فيكِ زغردت وهللت وتوسلت الى القدير أن يحمى شبابها، وكل من وقف فى وجه الضلال، فقد حاول الطغاة نشر الموت فى ربوعها، وصارت الفرحة من كل البيوت تدمَّر وتحرَق، والبسمة من عيون الأطفال تسرَق. حتى لغة لعب الأطفال تغيرت وتبدلت، لقد كبر أطفالك يامصراتة قبل الأوان ، منهم من وعى وفهم، ومنهم من صمت وتأمل، ومنهم من سأل: أين كتبي؟ وماذا حل بمدرستى؟ لكنهم جميعا كانوا يشتركون فى لعبة واحدة، وصارت عصيهم هي السلاح الذى يطلق الرصاص، وصاروا يُكبِّرون ويهللون فى براءة كما تفعل أمهاتهم عند سماع دوى المدافع والراجمات.
مصراتة ..أهلك تنسموا عبير هواءك المضمّخ برائحة الدم والبارود، ودخان أسلحة من لم يعرف الحق والعهود، فقد بعث الخفافيش التى أمعنت فيك سيف الظلام وقذفت حقدها على روؤس الأحياء، لكن شمسك سطعت وتلألأت.
مصراتة، نحن نحبك.. ياربة الخير والبركة.. يانجوى القلب الكسير، من ترابك اتخذنا عطراً ومن نجومك كان لنا العقد والسوار، تفيأنا ظلك، وطرقنا بابك وانتظرنا العهد الوليد، فافتحى قلبك لنور الشمس، افتحى يديك لتضم أبناءك.. لملمى جراحك فسوف يداويها شبابك.
مصراتة.. الربيع فيك تأخر... لكنه جاء.